الشيخ العلامة إبن تيمية - بقلم د . عائض القرني
لاشك أن الله سبحانه وتعالى هيأ الظروف والأحوال لخروج مثل هذا الرجل الإمام المجدد ، إذ كانت الحياة السائدة في عهده حياة تدعو إلى الرثاء ، وتستجدى بزوغ نجم مجدد مصلح كبير ، يكون في مثل عقل ابن تيمية ،وعلمه ، وخشيته ، وشجاعته ، لقد كانت الحالة العقدية بها غبش في التصور ، فظهر الشرك عند القبوريين الذين يطوفون متبركين بالقبور ؛ فظهر كثير من المهنة والمشعوذين والسحرة والدجالين والأفاكين ، ووجد كثير من المبتدعة بشتى مشاربهم ونحلهم ومذاهبهم الخاوية المنحرفة ، واستشرى فساد سياسي يتمثل في الظلم من الحاكم ، والجهل بالشريعة ، كما ظهر الفساد في القضاء من انتشار للرشوة ،وجهل بالشريعة ، وحيف وجور وظلم ، مقيت ، وجهل بالنص ، وبعد عن الدليل ، وبرز الفساد في مسالة الأدب ، حيث تراكم نتاج شعراء أفسدوا في المسيرة الأدبية ، وانحرفوا عن الجادة ؛ لما تركوا من لغو آثم وتركه فاسدة منحرفة عن الصراط المستقيم ، من الفجور والإلحاد.والفسق والعصيان ، كما وجد من يصد عن منهج الله عز وجل في المجتمع ممن يدعو إلى انغماسه في الدنيا بحالة ومقاله ، ومن يدعو إلى ترك السنة ، ومن يعطل الشرائع ؛ كفرقة البطائحية ، وكالنصيرية الضالة المنحرفة ، وكأتباع غلاة المتصوفة ، وأتباع ابن عربي الحلولي الاتحادي ، وغير ذلك من أرباب المسالك الجائزة فيهأ الله خروج هذا الإمام الذي أتى فملأ الزمان والمكان بالحق المورث عن ولد عدنان صلى الله عليه وسلم ، والملهم من الرحمن ، فأتى مصلحاً مجدداً .
فبدأ بالعقائد فأوضح الحق في هذه المسالة ، ودعا دعوة تامة عامة كاملة للعودة إلى التوحيد الصحيح ، وأنه أصل الأصول ، فبين ووضح وشرح ورد كل شبهة ترد على هذا الأصل العظيم .
ثم أتي إلى الفقه فدعا الناس إلى الاعتصام بالدليل ، مع توفير الأئمة ، وبين في أول كتاب ( الاستقامة ) أن الناس في هذه المسألة طرفان ووسط : فطرف جمد على الظاهر ولم يحترم الأئمة ولم يشتغل بالاستنباط والفقه ، وقابله طرف آخر عظم أقوال الأئمة واrأرباب المذاهب على حساب الدليل والنص ، فغلا في التعصب وإفراط في التقليد ، والصحيح الوسط وهو الاعتصام بالدليل من الكتاب والسنة وتقديم قول الله عز وجل وقول رسوله r عل قول الرجال ، كائناً من كل صاحب هذا القول ، مع احترام الأئمة وعدم المساس بهم رضوان الله عليهم ، وأتى إلى مسالة السنة فأوضحها للناس وبينها ودعا إليها بأقواله وأعماله وأحواله ، ورد على كل من خالفها ، أتم كل بحسبه ، وفت باب خصومات مع أعداء السنة ، فجابههم أتم المجابهة لما تقتضيه حكمته وبصيرته ، وأوذي في كل الأذى وهو صابر محتسب متلذذ بما يصيبه في ذات الله ، ومستعذب العذاب في سبيله ، فكانت العافية له ، وهي سنة الله –عز وجل – في رسله عليهم الصلاة السلام ، واتباع رسله إلى يوم القيامة .
ثم أتى إلى الفساد السياسي فدعا الحاكم إلى العمل شريعة الرسول عليه الصلاة والسلام ، وشافه الحكام بهذه الدعوة وراسلهم وكاتبهم ، ووجد من بعضهم الأذى ، وحبس في ذلك وأظهر دعوته ، وكتب في ذلك ( السياسة الشرعية ) ، ونهى عن الظلم ، ودعا إلى تقديم الملة على الأحكام الوضعية القانونية الأرضية ، وأخبر بأنه لا يسع أحداً من الناس – سواء الملوك أو العامة – الخروج عن شيء من شريعة الرسول عليه الصلاة والسلام ، وقام في ذلك المقامات التي شهد بها القريب والبعيد وزار السلاطين في بلاطهم ، ودخل دواونيهم ، وخطب بين أيديهم ، وكاتبهم وراسلهم ،وقام المقامات المشهودة عند العامة ، في مجامع الناس ، ونازل أعداء الشريعة وبارزهم في الميادين العامة ، وفي المجالس الخاصة ،وفي أماكن النظر ،وفي محلات التدريس ، فكان بحق شاغل تلك الفترة بالحديث والأخبار والأخذ والعطاء .